
الخيانة الصامتة: عندما تترك موريتانيا جنودها
نظام المعاشات العسكرية في موريتانيا هو آلة لسحق الأبطال تدفع نحو التهميش، الإفقار والفساد، وتُعرّض الأمن الوطني للخطر.
لقد ارتدوا الزي العسكري بفخر، وقضوا حياتهم في حالة استعداد، لكنهم اليوم يواجهون معركتهم الأصعب وظهورهم منحنية بسبب الحاجة. في شوارع نواكشوط وتحت ظلال الثكنات في المحافظات، تأدي مأساة صامتة: مأساة العسكريين الموريتانيين السابقين، الذين تخلت عنهم الدولة التي خدموها، محكوم عليهم بتقاعد لا يليق بهم. هذه الظاهرة، أكثر من كونها دراما اجتماعية، أصبحت صدعًا غائرًا في العقد الأخلاقي الذي يربط الأمة بحماتها.
المهنة العسكرية هي عقد فريد. إنها تتطلب، منذ سن مبكرة، التضحية الكاملة بالشباب، والقوة، وأحيانًا بالحياة. لمدة ثلاثين، وأحيانًا أربعين عامًا، يعيش هؤلاء الرجال والنساء حياة منضبطة، مليئة بالابتعاد عن العائلة والمخاطر. هويتهم تذوب في المؤسسة. لكن هذا العقد يُنقض في لحظة حاسمة: لحظة التقاعد.
مُجبرين على ترك الزي العسكري في سن مبكر، غالبًا بين 45 و60 سنة للحفاظ على جيش شاب، يجدون أنفسهم فجأة منطلقين نحو حياة مدنية لم يهيئوا لها أبدًا. مكانتهم الاجتماعية، وسبب وجودهم، وأمنهم المالي، ينهارون دفعة واحدة. "التقاعد"، الذي يُقدم كحق للراحة، يتحول إلى غوص مثير للقلق في المجهول.
الصدمة الأولى هي مالية. حساب المعاشات، الذي غالبًا ما يعتمد على آخر رواتب وسنوات الخدمة، ينتج مبلغًا ثابتًا وبائسًا بشكل عام. في سياق تضخمي، هذا المعاش، الذي قد يتراوح بين 50,000 إلى 100,000 أوقية قديمة (حوالي 130 إلى 260 يورو) لجميع العسكريين بجميع الرتب، هو إهانة لسنوات طويلة من الخدمة. إنه لا يكفي حتى لتغطية الاحتياجات الغذائية الأساسية، ناهيك عن الإيجار، أو الرعاية الصحية، أو تعليم الأطفال.
لهذه الهشاشة المبرمجة تأثير سلبي فوري على الموظفين والعسكريين الذين لا يزالون في الخدمة. وهم يشهدون على التدهور الذي يعانيه كبارهم، يصبح الخوف رفيق يومهم. هذه القلق الوجودي هو تربة خصبة للفساد الصغير والكبير. "الموظف في الخدمة سيحتاج إلى ما يعيش به إذا أرسل الي الشارع"، كما يقول المثل. فتكوين "صندوق احتياطي" للطوارئ، بطرق ملتوية، يظهر بعد ذلك كاستراتيجية قاتمة للبقاء المتوقع. عدم كفاءة نظام المعاشات يصبح بهذا، وبشكل متناقض، أحد محركات الفساد داخل الدولة.
بدون شبكة أمان، يكون السقوط مروعًا. المهارات المكتسبة في الجيش – القيادة، اللوجستيات، حفظ النظام – هي ثمينة لكن نادرًا ما يمكن نقلها كما هي إلى الحياة المدنية، بدون شبكة علاقات قوية أو تدريب إضافي.
أقلية تجد ملاذًا في قطاع الأمن الخاص. لكن خبرتهم هناك تُقّيم بأقل من قيمتها إلى حد كبير. كثيرون يجدون أنفسهم بعقود هشة ورواتب ضئيلة، غالبًا ما تكون أقل من 100,000 أوقية قديمة (حوالي 50 يورو). آخرون، أقل حظًا، ليس لديهم خيار سوى التحول إلى سائقي سيارات أجرة، أو حراس ليليين، أو عمال بناء. هذه المهن، المحترمة في حد ذاتها، تمثل انحدارًا اجتماعيًا لا يُطاق لعسكريين سابقين اعتادوا على الاحترام والهيكل التنظيمي.
أخيرًا، هناك أولئك الذين طحنهم النظام ببساطة. نراهم، شاخصي الأبصار، على أطراف الأسواق أو المساجد. جنود سابقون، أحيانًا موسومين جسديًا أو نفسيًا بسبب خدمتهم، مطرين إلى التسول. هيئتهم هي أكثر رمز صارخ لفشل الأمة.
ما وراء المأساة الإنسانية، يشكل هذا الوضع تهديدًا استراتيجيًا:
• تآكل معنويات الجيش: كيف يمكن الحفاظ على الانضباط، والولاء، وروح التضحية لدى الجندي الشاب الذي يرى من هو أكبر منه ينتهي به الأمر متسولًا؟ الامتعاض ينخر المؤسسة من الداخل.
• خطر عدم الاستقرار: جيش يكون قدامى جنوده غير راضين، فقراء، ومحبطين، هو فريسة سهلة للخطابات التحريضية وإغراءات التمرد أو الثورة. الرجل الذي لا شيء لديه ليخسره هو خطر على النظام العام.
• خسارة رأس مال بشري لا يُقدر بثمن: الأمة تهدر خبرة، وانضباط، ووطنية آلاف الرجال في مقتبل العمر، الذين يمكنهم المساهمة في التنمية الوطنية في قطاعات أخرى.
ما الحلول؟ من أجل إصلاح عاجل وشامل
من الضروري القطع مع منطق التخلي هذا. إصلاح شجاع أصبح ضروريًا، يُبنى حول عدة محاور:
• إعادة تقييم المعاشات: ربط المعاشات بتكلفة المعيشة ومراجعة طريقة حسابها لضمان تقاعد كريم، وليس مجرد بقاء على قيد الحياة.
• إنشاء معهد لإعادة التأهيل: وضع برنامج إلزامي للتدريب على المهن المدنية الواعدة (الأمن، اللوجستيات، الإدارة، البناء والأشغال العامة) قبل خمس سنوات على الأقل من المغادرة، وتوفير مرافقة شخصية نحو العمل أو ريادة الأعمال.
• شراكات بين القطاعين العام والخاص: حث الشركات، من خلال حوافز ضريبية، على توظيف العسكريين السابقين، مما يعزز قيمة ملفهم الشخصي الفريد.
• تعزيز جمعيات قدماء المحاربين: تحويلها إلى رافعات حقيقية للمساعدة المتبادلة، والدفاع عن الحقوق، وإعادة الإدماج الاجتماعي.
كرامة الجنود بعد خدمتهم هي مقياس اعتراف الأمة. بترك أبطالها يسقطون في النسيان والبؤس، لا تكسر موريتانيا مجرد حياة؛ إنها تقوض أسس أمنها وشرفها. لقد حان الوقت لاستعادة جنودنا من حيث تركتهم الدولة يسقطون. كفاحهم من أجل تقاعد كريم هو كفاح من أجل روح ومستقبل البلاد.
والله ولي التوفيق!
العقيد المتقاعد سيد محمد أبيبكر





